كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله. قال سُنَيْد: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بَهْدَلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
ثم ساق من طريق يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بَهْدَلة عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش، ويعلم أعمالكم. وذكر هذا الكلام أو قريبًا منه في كتاب الاستذكار.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في الرسالة المدنية: إذا وصف الله بصفة أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، أو وصفه بها المؤمنون الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز يخالف الحقيقة، لابد فيه من أربعة أشياء:
أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاءوا باللسان العربي، لا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلابد أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مُبطل أن يفسر أي: لفظ بأي معنى ناسخ له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.
الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة، فلابد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
الثالث: أنه لابد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة، امتنع تركها.
ثم إن كان هذا الدليل لم يلتفت إلى نقيضه وإن كان ظاهرًا فلابد من الترجيح.
الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم وأراد به خلاف ظاهره، وضد حقيقته فلابد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وإنما أراد مجازه، سواء عينه أو لم يعينه، لاسيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الإعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه سبحانه جعل القرآن نورًا وهدىً وبيانًا للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسول ليبين للناس ما نُزّل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات.
ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علمًا، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصب دليلًا يمنع من حمله على ظاهره، إما بأن يكون عقليًا ظاهرًا مثل قوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء} فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها.
وكذلك قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْء} يعلم المستمع أن المراد أن الخالق لا يدخل في هذا العموم، أو سمعيًا ظاهرًا مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعضها الظواهر.
ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعيًا أو عقليًا، لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى، وأعاده مرات كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم، وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب شيئًا من ظاهره، لأن هناك دليلًا خفيًا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره كان تدليسًا أو تلبيسًا، وكان نقيض البيان، وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان، فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد، كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟ انتهى.
الثاني: يتوهم كثير أن القول بالعلو والإستواء يلزم منهما القول بالتجسيم، وقد رمى بذلك كثيرة من المحدثين، وممن رماهم بذلك الجلال الدواني في شرح العقائد العضدية حيث قال- عفا الله عنه-: وأكثر المجسمة هم الظاهريون المتبعون لظاهر الكتاب والسنة، وأكثرهم المحدثون، ولابن تيمية أبي العباس وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة، ومبالغة في القدح في نفيها.
ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال: هو معدوم، أو يقال: طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده، ونسب النافين إلى التعطيل، هذا مع علو كعبه في العلوم العقلية والنقلية، كما يشهد به من تتبع تصانيفه.
ومحصل كلام بعضهم في بعض المواضع، أن الشرع ورد بتخصيصه تعالى بجهة الفوق، كما خصص الكعبة بكونها بيت الله تعالى، ولذلك يتوجه إليها في الدعاء.
ولا يخفى أنه ليس في هذا القدر غائلة أصلًا، لكن بعض أصحاب الحديث من المتأخرين لم يرض بهذا القول، وأنكر كون الفوق قبلة الدعاء، بل قال: قبلة الدعاء هو نفسه، كما أن نفس الكعبة قبلة الصلاة، وقد صرح بكونه جهة الله تعالى حقيقة من غير تجوز. انتهى كلام الدواني.
وتعقبه غير واحد:
منهم: الشيخ إبراهيم الكوراني في حاشيته عليه المسماة مجلى المعاني قال: إن ابن تيمية ليس قائلًا بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسمًا، في رسالة تكلم فيها على حديث النزول.
وقال في رسالة أخرى: من قال إن الله تعالى مثل بدن الْإِنْسَاْن، أو إن الله يماثل شيئًا من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه.
بل هو على مذهب السلف قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة، مع نفي اللوازم، ونقل عليه إجماع السلف، صرح به في الرسالة القدرية. انتهى.
ومنهم: ولي الله الدهلوي قدس سره، قال في كتابه حجة الله البالغة: واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث، وسموهم مجسمة ومشبهة، وقالوا: هم المتسترون بالبلكفة، وقد وضح علي وضوحًا بينًا أن استطالتهم هذه ليست بشيء، وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية، وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى. انتهى.
ومنهم: الشهاب الألوسي المفسر، فإنه كتب على كلام الدواني ما نصه: حاشا لله تعالى أن يكون- يعني ابن تيمية- من المجسمة، بل هو أبرأ الناس منهم.
نعم يقول بالفوقية، وذلك مذهب السلف، وهو بمعزل عن التجسيم.
وجلال الدين وأضرابه أجهل الناس بالأحاديث، وكلام السلف الصالح، كما لا يخفى على العارف المنصف، نقله عنه ابنه في محاكمة الأحمدين.
وأقول. إن كل من رمى مثل هذا الإمام بالتجسيم فقد افترى وما درى، إلا أن عذره أنه لم ينقب عن غرر كلامه، في فتاويه التي أوضح فيها الحق وأنار بها مذهب السلف قاطبة.
وهاك شذرة من درره. قال رحمه الله في بعض فتاويه:
والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب التصديق به، مثل علو الرب، واستوائه على عرشه، ونحو ذلك، وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات، مثل قول القائل: هو جهة أو ليس في جهة، وهو متحيز أو ليس بمتحيز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نص، لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين، هؤلاء لم يقل أحد منهم إن الله تعالى في جهة، ولا قال ليس هو في جهة، ولا قال هو متحيز، ولا قال ليس بمتحيز، بل ولا قال هو جسم أو جوهر، ولا قال ليس بجسم ولا بجوهر. فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحًا.
فإن يريدوا معنى صحيحًا يوافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولًا منهم، وإن أرادوا معنى فاسدًا يخالف الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردودًا عليهم.
فإذا قال القائل: إن الله تعالى في جهة، قيل: ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أنه سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به، مثل أن يكون في جوف السموات، أم تريد بالجهة أمرًا عدميًا، وهو ما فوق العالم شيء من المخلوقات.
فإن أردت الجهة الوجودية، وجعلت الله تعالى محصورًا في المخلوقات، فهذا باطل، وإن أردت بالجهة العدمية وأردت الله تعالى وحده فوق المخلوقات بائن عنها، فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئًا من المخلوقات حصره، ولا أحاط به، ولا علا عليه، بل هو العالي عليها، المحيط بها، وقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه} الآية.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله عز وجل يقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض»؟ وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السموات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن، وما بينهن، في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم.
وفي حديث آخر أنه يرميها كما يرمي الصبيان الكرة.
فمن يكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى، وإلى هذا الحقر والصغار، كيف تحيط به وتحصره؟
ومن قال إن الله تعالى ليس في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السموات رب يعبد، ولا على عرش إله، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوب إليه فهذا فرعوني معطل، جاحد لرب العالمين. وإن كان يعتقد أنه مقر به فهو جاهل متناقض في كلامه. ومن هنا دخل أهل الحلول والإتحاد وقالوا: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، وإن وجود المخلوقات هو وجود الخالق.
وإن قال: مرادي بقولي ليس في جهة، أن لا تحيط بها المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى.
وكذلك من قال إن الله تعالى متحيز أو قال ليس بمتحيز: إن أرد بقوله متحيز أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ وإن أراد به منحاز عن المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب، وإن أراد ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل فيها، ولا خارج عنها، فقد أخطأ.
والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة.
فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالإتحاد والوحدة، فيقولون: وجود المخلوقات وجود الخالق.
وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارج، ولا مباين له، وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة، كما أن الأول عَبَّاد الجهمية. فمتكلمة الجهمية لا يبعدون شيئًا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء، وكلامهم يرجع إلى التعطيل والجحود، الذي هو قول فرعون.
وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم خلقها، فإما أن يكون دخل فيهما، وهذا حلول باطل، وإما أن يكونا دخلا فيه، وهو أبطل وأبطل، وإما أن يكون الله سبحانه بائنًا عنهما، لم يدخل فيهما، ولم يدخل فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة.
ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر الله تعالى عليه عباده، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة، فإن هذه الأدلة كلها متفقة على أن الله تعالى فوق مخلوقاته، عال عليها، قد فطر الله تعالى على ذلك العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: إقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه} وهذا معنى قول عُمَر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عليه، فإن الله سبحانه فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها.